تخطي أوامر الشريط
التخطي إلى المحتوى الأساسي

 نظرية السياق

صنف المادة المكتوبة مقالة
النص

بسم الله الرحمن الرحيم

نظرية السياق

 

التعريف الاصطلاحي للسياق:

(( بناء نصي كامل من فِقرات مترابطة، في علاقته بأي جزء من أجزائه أو تلك الأجزاء التي تسبق أو تتلو مباشرة فقرة أو كلمة معينة. و دائماً ما يكون سياقُ مجموعة من الكلمات وثيقَ الترابط بحيث يلقي ضوءاً لا على معاني الكلمات المفردة فحسب بل على معنى وغاية الفقرة بأكملها ))(1).

     هذا التعريف يسمح لنا أن نقول أن السياق هو جوهر المعنى المقصود في أي بناء نصي أو كلامي فهو لا يلقي الضوء على الكلمة والجملة فقط وإنما على النص المكتوب والكلام المجمل من خلال علاقة المفردات بعضها ببعض في أي سياق من السياقات المختلفة.

رواد نظرية السياق:

    عرفت مدرسة لندن بما سمي بالمنهج السياقي أو المنهج العملي. وكان رائدُ هذا الاتجاه هو " فيرث " الذي وضع تأكيداً كبيراً على الوظيفة الاجتماعية للغة، كما ضم الاتجاه أسماء مثل: هليداي وسنكلير.

معنى الكلمة عند السياقيين:

     معنى الكلمة عند أصحاب نظرية السياق هو (( استعمالها في اللغة )) ، أو((الطريقة

التي تستعمل بها )) أو (( الدور الذي تؤديه )) (2) .

       لاحظ مثلا الاستعمالات الآتية لكلمة (( دم )) في العاميات العربية : دمه فار –  دمه يغلي – دمه ثقيل – دمه خفيف – دمه حار – دمه بارد.  ماذا تلاحظ؟! تلاحظ في كلمة (( دم )) في كل سياق وردت فيه من تلك السياقات يلوح معنا جديدا ومختلفا عن غيره. ففي عبارة (دمه فار, دمه يغلي ) نجد المعنى هو الغضب والعصبية، بينما في العبارة ( دمه حار ) المعنى مختلف تدل على رجل نشيط وحركي وعامل. ولكن في عبارة (دمه بارد) تدل على الرجل الكسول والخامل الذي لا يحب العمل وإذا عمل يعمل ببطء.

      ولهذا يصرح رائد نظرية السياق فيرث بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة. بمعنى أن الكلمة المفردة لا معنى لها إلا إذا وضعت في سياق جملة.

      و يقول أصحاب هذه النظرية في شرح وجهة نظرهم: (( معظم الوِحْدات الدلالية تقع في مجاورة وحدات أخرى. و إن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفُها أو تحديدها إلا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها )).

     ركز أصحاب نظرة السياق على السياقات اللغوية التي ترد فيها الكلمة و ضرورة البحث عن الكلمة من خلال ارتباطها بكلمات أخرى وبسبب ذلك أدى إلى نفيهم أن يكون الوصول إلى معنى الكلمة وغايتها من خلال النظر إلى المشار إليه  أو وصفه أو تعريفه.

     وعلى هذا فدراسة معاني الكلمات تتطلب تحليلا للسياقات والمواقف التي ترد فيها، حتى ما كان منها غير لغوي. ومعنى الكلمة – على هذا – يتعدد تبعاً لتعدد السياقات التي تقع فيها أو بعبارة أخرى تبعاً لتوزعها اللغوي.

أنماط السياق:

     تتطلب دراسة معاني الكلمات عند أصحاب نظرية السياق تحليلاً للسياقات والمواقف

التي ترد فيها، حتى ما كان منها غير لغوي. ولذلك اقترحوا تقسيماً للسياق بأربع شعب.

وهذا التقسيم الذي اقترحوه كالآتي:

النمط الأول: السياق اللغوي Linguistic context:

      هو حصيلة استعمال الكلمة داخل نظام الجملة، عندما تتساوق مع كلمات أخرى، مما يكسبها معنى خاصاً محدداً. فالمعنى في السياق هو بخلاف المعنى الذي يقدمه المعجم، لأن هذا الأخير متعدد ، في حين أن المعنى الذي يقدّمه السياق اللغوي هو معنى معين له حدود واضحة وسمات محددة غير قابلة للتعدد أو الاشتراك أو التعميم .

أمثلة على السياق اللغوي:

          عندما ترد كلمة ((عين)) في العربية – وهي من المشترك اللفظي – في سياقات لغوية متعدِّدة يتبين للدارس ما تحمله من معان مختلفة باختلاف كلِّ سياق ترد فيه. إنَّ كلَّ سياقٍ آتٍ ترد فيه كلمة ((عين)) يقدِّم معنىً واحداً تتجه إليه الأفهام وتترك ما سواه، فلا يقع أيّ اشتراك في السياق، فقولنا:

·       عين الطفل تؤلمه : العين هنا هي الباصرة.

·       في الجبل عين جارية: العين هي عين الماء.

·       العين الساحرة وسيلة لمعرفة الطارق: العين تدلُّ على منظار حديث يركب في الباب.

·        هذا عين للعدوّ : العين هنا الجاسوس.

·       ذاك الرجل عين من الأعيان: العين هنا السيِّد في قومه

      وكذلك نجد أن كلمة ( good ) في الإنجليزية تقع في سياقات لغوية متنوعة. فإذا وردت وصفاً لــ :

1-    أشخاص: رجل – امرأة – ولد. .  ( دلَّت على الناحية الخلقية ).

2-    طبيب  - معلم -  مهني . . ( دلَّت على التفوق في العمل والأداء الممتاز ) .

3-    مقادير ومحسوسات: ملح – دقيق – هواء – ماء . . ( دلَّت على الصفاء والنقاء والخلوِّ من الغش ) (12).

ومن المؤكد أن ما ذكر لا ينطبق على أمثلة محددة وكلمات نادرة، إنما ينطبق على غالبية المفردات حين ترد في السياق، ويرجع هذا إلى أن طبيعة المعنى في المعجم تختلف عن طبيعته في السياق. ويشار في هذا الصدد إلى أن السياق اللغوي يوضح الكثير من العلاقات الدلالية عندما يستخدم مقياساً لبيان الترادف أو الاشتراك أو العموم أو الخصوص أو الفروق......الخ.

النمط الثاني: السياق العاطفي Emotional context: 

هو الذي يحدد طبيعة استعمال الكلمة بين دلالتها الموضوعية - التي تفيد العموم - ودلالتها العاطفية - التي تفيد الخصوص- فيحدد درجة القوة والضعف في الانفعال، مما يقتضي تأكيداً أو مبالغةً أو اعتدالاً. كما تكون طريقة الأداء الصوتية كافية لشحن المفردات بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية؛ كأن تُنطَق وكأنها تمثِّل معناها تمثيلاً حقيقياً. ولا يخفى ما للإشارات المصاحبة للكلام في هذا الصدد من أهمية في إبراز المعاني الانفعالية. ويتضح التعريف جيداً من خلال هذه الأمثلة الآتية:

أمثلة على السياق العاطفي:

أولاً: من ناحية طبيعة استعمال الكلمة في دلالتها العامة ودلالتها العاطفية الخاصة:

      كلمتا جهاد ونضال، كلمتان مترادفتان إلَّا أنهما تختلفان عند حدود استعمالهما لأن كلَّ مستعمل له انتماء فكري ينحاز له فكرياً وعاطفياً؛ فلكلِّ جمهور نزعة عاطفية تجاه كلمة من الكلمات مع أنها تشترك أو ترادف كلمة أخرى في عموم الموضوع إلا أن لكلِّ كلمة خصوصيتها وجمهورها الذي يحتوي على تجاه فكري معين  فكلمة ((جهاد)) يستخدمها الإسلامي بينما كلمة ((نضال)) يستخدمها العلماني.

  وهكذا نرى أن في استخدام لفظتي استغلال واستثمار تبايناً، فالأولى تحمل قيماً أسلوبية سلبية في حين الثانية إيجابية. بالرغم من أنهما مترادفان،فالأولى تشير إلى أخذ غلة والثانية أخذ ثمرةً.

وهكذا أيضاً لفظة ((كلب)) وما تحمله من قيم عاطفية متباينة. فعند الطفل هو لعبة، وعند المرأة التي تصلي هو نجس، وعند الفتاة هو الذي يشكل الخوف من نباحه، وعند الصياد هو الفرح الأكبر بحفلة الصيد. وهكذا فمستخدم هذه اللفظة يُسبغ عليها من عاطفته، عندما ترد على لسانه، محملة بما تفيض به نفسُه من انفعالات.

ثانياً: من ناحية درجة القوة والضعف في الانفعال:

     السياق العاطفي هو الذي يحدد درجة الانفعال قوةً وضعفاً، فالكلمات ذات الشحنة التعبيرية القوية ترد حين يكون الحديث عن أمر فيه غضب وشدة انفعال. فالمتكلم، في هكذا حالة من الشعور الجامح، يغالي في استخدام كلمات ذات شحنة عاطفية كبيرة، ومعانٍ مغالية لا يقصد معناها الحقيقي. فالذين يتعاركون((يتذابحون)) أو ((يقتلون)) بعضهم بعضاًفمستخدم هذه الكلمات لا يقصد معانيها الحقيقية.

ثالثاً: من ناحية طريقة الأداء الصوتي:

     طريقة الأداء الصوتي لها دور فعال في شحن المفردات بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية، كأن تُنْطَق الكلمة وكأنها تمثل معناها تمثيلاً حقيقياً. ولا يخفى ما للإشارات المصاحبة للكلام في هذا الصدد من أهمية في إبراز المعاني الانفعالية.  

 

النمط الثالث: سياق الموقف:Situational context  

     يدل هذا السياق على العلاقات الزمانية والمكانية التي يجري فيها الكلام. وقد أشار اللغويون العرب القدامى إلى هذا السياق، كما عبَّر عنه البلاغيون بمصطلح((المقام)) وقد غدت كلمتهم  ((لكلِّ مقام مقال)) مثلاً مشهوراً. ويرى الدكتور تمَّام حسَّان أنَّ ما صاغه مالينوفسكي تحت عنوانContext of situation   سبقه إليه العرب الذين عرفوا هذا المفهوم قبله بألف سنة أو ما فوقها. لكنَّ كتب هؤلاء لم تجد من الدعاية على المستوى العلمي ما وجده مصطلح مالينوفسكي من تلك الدعاية بسبب انتشار نفوذ العالم الغربي في كلِّ الاتجاهات.       

     إن مراعاة المقام تجعل المتكلم يعدل عن استعمال الكلمات التي تنطبق على الحالة التي يصادفها خوفاً أو تأدباً. بل قد يضطر المتكلم إلى العدول عن الاستعمال الحقيقي للكلمات فيلجأ إلى التلميح دون التصريح.

أمثلة على سياق الموقف:

     ما ورد على لسان الأحنف بن قيس حين سأل معاوية بن أبي سفيان عن رأيه في أخذ البيعة بولاية العهد ليزيد ولده مع أنه لم يكن محمود السيرة في الناس، فقال الأحنف قولته الشهيرة: (( أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت ))، فكانت كنايتُه أبلغَ من التصريح وأقدرَ على أداء المعنى من التوضيح.

النمط الرابع: السياق الثقافي Cultural context :

      ينفرد هذا السياق بدور مستقل عن سياق الموقف الذي يُقصد به عادة المقام من خلال المعطيات الاجتماعية. لكنَّ هذا لا ينفي دخولَ السياق الثقافي ضمن معطيات المقام عموماً. ويظهر السياق الثقافي في استعمال كلمات معينة في مستوى لغوي محدّد .

 أمثلة على السياق الثقافي:

 أولاً: ظهور السياق الثقافي من ناحية استعمال كلمات معينة في مستوى لغوي محدّد:

فالمثقف العربي المعاصر عندما يريد أن يعبر بكلمة تدل على امرأته يقول : (( زوجة )) أو (( مدام )) ، بينما نجد الرجل العادي البسيط يستخدم كلمة : (( مَرَه )) ، على حين يستخدم الرجل المتدين كلمة:  (( حرمة )) و(( حريم )) . فالسياق الثقافي له دور كبير في تحديد الدلالة المقصودة من الكلمة أو المفردة التي تستخدم استخداماً عاماً.

ثانياً: يحدّد السياق الثقافي الدلالة المقصودة من الكلمة التي تُستخدم استخداماً عاماً:

     فاستعمال كلمة (( الصَّرف )) لدى دارسي العربية يعني مباشرة أنّ المقصود هو علم الصرف الذي تعرف به أحوال الكلمة العربية من اشتقاق وتغيير وزيادة ونحو ذلك. على حين أنَّ دارسي الهندسة وطلابها يحدِّدون دلالة (( الصَّرف )) عندهم بأنها مصطلح آخر هو (( الرِّي )). وهكذا يتحدّث هؤلاء عن (( الرِّي والصَّرف ))دون أن يَشعُروا بأيّ التباس أمام استخدام دارسي العربية الذين يتحدّثون عن (( النَّحو والصَّرف )). أمَّا إذا استعملت كلمة (( الصَّرف )) في قطاع المال والتجارة، فإنّ لها دلالة أخرى تشير إلى تحويل العملة النقدية من الجمود - في الحساب المصرفي مثلاً - إلى التداول الفعلي، أو تحويل العملة من فئة إلى فئة، أو من نقد إلى آخر.

ثالثاً: ارتباط الكلمة بثقافة معينة لتكون علامة لانتماء عرقي أو ديني أو سياسي:

     استخدام كلمة (( فتح )) للدلالة على حرب وكسب الأرض، لا يماثل بحال من الأحوال استخدام كلمة ((احتلال )) أو(( غزو مسلح ))،لأنَّ كلمة (( فتح )) لها دلالة ثقافية تاريخية إيجابية. كما أنَّ استخدام كلمة (( المجاهد)) لا يتطابق دائماً مع كلمة (( المناضل )) أو(( المقاتل )) أو((الفدائي)) أو (( الإرهابي )) أو (( الانتحاري ))

رابعاً: ارتباط السياق الثقافي بالترجمة:

     للسياق الثقافي أهمية بارزة في الترجمة، إذ تتطلَّب مقتضيات الفهم الصحيح والدِّقّة العلمية أن يلَّم المترجم بالسياق الثقافي للنِّصّ المترجم لكي ينقل مضمونه إلى اللغة الأخرى بكلمات موازية من حيث الارتباط بالسياق. ولا يمكن حين التَّصدِّي لترجمة الكلمات التي تعبِّر عن عقائد أو مذاهب سياسيّة الاقتصارُ على الدلالة المعجمية التي ربّما تكون مضلِّلة للمترجم الذي لم يتوسَّع في احتساب المعاني الهامشية المستمدة من السياق الثقافي.

     مميزات المنهج السياقي:-

لعل أهم الميزات التي يتمتع بها المنهج السياقي هي الآتية:

1.  أنه– على حد تعبير ألمانيجعل المعنى سهل الانقياد للملاحظة والتحليل الموضوعي ، وعلى حد تعبير فيرث أنه يُبعد عن فحص الحالات العقلية الداخلية التي تعد لغزاً مهما حاولنا تفسيرها، ويعالج الكلمات باعتبارها أحداثاً وأفعال وعادات تقبل الموضوعية والملاحظ في حياة الجماعة المحيطة بنا.

2.  أنه لم يخرجْ في تحليله اللغوي عن دائرة اللغة ، فنجا من النقد الموجه إلى جميع المناهج السابقة (الإشاري – التصوري– السلوكي)، وهو النقد الذي عبر عنه "لييتش" بقوله : (( إن البحث عن تفسير للظاهرة اللغوية خارج إطار اللغة يشبه البحث عن منفذ للخروج من حجرة ليس لها نوافذُ ولا أبواب. المطلوب منا أن نَقْنعَ بتقصي ما هو موجود داخل الحجرة، أي أن ندرس العلاقاتِ داخل اللغة )).   

 

  المراجع:

1. معجم المصطلحات الأدبية، إعداد: إبراهيم فتحي، دار شرقيات للنشر والتوزيع، الطبعة أولى 2000، باب اللوق – القاهرة.

2. علم الدلالة، أحمد مختار عمر: أستاذ علم اللغة في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، الناشر عالم الكتاب ، الطبعة الثانية 1988، شارع عبد الخالق ثروت - القاهرة.

 


الكاتب د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي
تاريخ الإصدار 09/05/1438
المصدر معهد تعليم اللغة العربية
الجهات الناشرة